حب المرأة
يجتمع في حب المرأة كلُّ ما تَفَرَّقَ من نقائضها وأسرار خلقها لأن الحب هو محور الوظائف الجنسية التي خلقت فيها نقائضها وأسرارها؛ فهي لا تتناقض في خالجة من الخوالج كما تتناقض في هذه الخالجة الكبرى، ولا تستوفي أنوثتها في نزعة من النزعات كما تستوفيها وهي تستقبل بها رجولة الرجل الذي تهواه.
وممَّا يضاعف نقائض الحب أن المرأة في الحب نماذج كثيرة على حسب الطبيعة الغالبة عليها من طبائع الأنوثة.
فليس حب المرأة المشغولة بالأمومة كحب المرأة المشغولة بالزوجية، وحب المرأة المشغولة بالعشق وعلاقاته، أو المرأة المشغولة بالمتعة الحيوانية أو المشغولة باللعب والعبث والتصدي لكل من تلقاه من الرجال.
ولا نهاية للشواغل التي تختلف بها أهواء النساء ولا أهواء المرأة الواحدة، ولكننا نردها إلى نماذجها العامة فتخلص لنا منها تلك النماذج الخمسة التي أجملنا الإشارة إليها فيما تقدم، وهي: نموذج المرأة الأم، ونموذج المرأة الزوج، ونموذج المرأة العاشقة، ونموذج المرأة الهلوك، ونموذج المرأة اللعوب.
وكل نموذج من هذه النماذج يخالف الآخر في حبه واختياره للرجل الذي يوائمه، وفي علاقته بمن يختار.
حب المرأة الأم
فالمرأة الأم تصدر في حبها عن بواعث الحنان والتضحية، وقد تعطف على الرجل لمتاعبه وآلامه فتحبه وتهواه؛ إذ يهيئ لها منفذًا لعاطفة الأمومة الغالبة عليها، فترعاه في معيشتها معه رعاية الأم لوليدها، وتصبر معه على الضنك والحرمان؛ لأنها مطبوعة على التضحية وإنكار النفس في سبيل الذرية، ومتى طبعت المرأة على إنكار النفس في هذا السبيل فهي تنكر نفسها كلما أحبت واستجاش الحب في طواياها بواعث العطف والرعاية.
حب المرأة الزوج
والمرأة الزوج يستهويها الرجل من ناحية المعيشة المنزلية والمظاهر الاجتماعية وعلاقات الأهل والأسرة وألفة المزاوجة التي تستغرق طبائع بعض الآدميين، كما نشاهدها مستقرَّةً في بعض الطيور أو بعض الفقاريات التي تألف المزاوجة مدى الحياة.
حب المرأة العاشقة
والمرأة العاشقة تحب الرجل الذي يثير حسها ويُشعل كوامن نفسها ويملك إعجابها، وتختلف النساء العاشقات فيما يثير الحس ويشعل كوامن النفس ويملك الإعجاب، فمنهن من يستهويها الرجل بشبابه وجماله وسَمته، ومنهن غير أولئك ألوان وأشكال يختلفن في عشقهن كاختلاف الرجال في المحاسن والمزايا أو الخصال.
حب المرأة الهلوك
والمرأة الهلوك تحب الرجل للشهوة الحيوانية ولا يعنيها الرجال إلا من هذه الناحية دون غيرها، ويخلو هذا الحب من الوفاء والإخلاص والشفقة والمَوَدَّة والمعاني الأدبية التي توجد بين المحبين؛ لأنه يشبه الشغف بالطعام والشراب لا صلة فيها بين الآكل والمأكول أو الشارب والمشروب غير صلة الشبع والجوع وصلة الري والظمأ، ولا تحفل المرأة التي تحب هذا الحب بشخص الرجل ولا تقنع بواحد إذا استطاعت أن تستكثر من العشراء، ولكنها قد تشاهد على حالة من التعلق برجل واحد تلتبس بحالة الوفاء والإخلاص وهي ليست من الوفاء والإخلاص في شيء، وإنما سببها الاختلاف بين الرجل والمرأة في طلب الجنس الآخر واحتجازه.
فالرجل ترضي شهوته كل امرأة اتصلت بينه وبينها صلة جنسية، ولا يعيبه أن يطلب المرأة ولا المرأة تعافه لأنه يطلبها، ويندر من الرجال من يقبل علانية أن تحتجزه امرأة لشهواتها وتتكفل بالنفقة عليه.
ولكن المرأة على نقيض ذلك لا يرضي شهوتها كل رجل تتصل بينها وبينه صلة جنسية، ويعيبها جدًّا أن تسعى كل حين في طلب رجل جديد، ولا يعيبها أن يحتجزها الرجل وينفق عليها كما يعيبه هو أن تحتجزه وتنفق عليه.
فإذا عثرت المرأة الهلوك بالرجل الذي يرضي شهوتها ويقبل احتجازها وتلبية هواها فهي تتعلق به وتقتصر عليه؛ لأنها طِلبة لا تتكرر بمشيئتها، ولو كانت تتكرر بمشيئتها لما فرغت من تغيير الرجال وتبديلهم كل يوم.
حب المرأة الشهوانية
ولهذا قد تكون المرأة الشهوانية أدوم النساء على رجل واحد مع أنها لا تعرف الوفاء والمودة والحنان، وذاك الذي يلوح للنظرة الأولى كأنه تناقض عجيب من خلق النساء، وإنما عِلَّته ما قدمناه.
أما المرأة اللعوب فهي تحب الرجل الذي يرضي فيها طبيعة اللعب والدعابة والغزل الصاخب المتجدد، وقد تحب الدعابة للدعابة لا لأنها طريق الشهوة أو الصلات الجنسية والعلاقات الزوجية.
وأدعى ما يكون من دواعي الحيرة في تناقض النساء في حبهن أن غلبة نموذج من هذه النماذج على طبيعتهن لا يمحو منها النماذج الأخرى.
حب المرأة اللعوب
فالمرأة اللعوب قد يراجعها عطف الأمومة في بعض أطوارها، والمرأة الأم قد تطرب للدعابة والعبث وتؤخذ بهما، والمرأة الهلوك قد تُضمِر العشق حينًا من أحيانها، والمرأة العاشقة قد تركن إلى الزواج الدائم، والمرأة الزوج قد تعشق زوجها طويلًا كما يتعاشق المحبان المغرمان.
لأن غلبة عنصر من عناصر الطباع لا يجتث العناصر الأخرى سواء في نفوس النساء أو نفوس الرجال.
والحب كما لا يحفى علاقة بين شخصيتين لا بين جنسين.
وتفسير ذلك أن العلاقة التي تكون بين كل ذكر وبين كل أنثى هي وظيفة جسدية وليست علاقة نفسية أو روحية كالعلاقة التي تكون بين المحبين.
وإنما تُسَمَّى العلاقة بين الذكر والأنثى حبًّا إذا تميزت فيها شخصية من جنس الرجال وشخصية من جنس النساء، فلا يغني عن كل منهما بديل من جنسه، إلا إذا وهنت العلاقة التي بينهما.
والسُّنَّةُ العامة في الحب هي التوحيد والاكتفاء بمحبوب واحد في حينه، ولكنه قد يجري على غير هذه السُّنَّة في بعض أحواله الغريبة، فتحب المرأة غير رجل وقد تحب عدة رجال؛ لأن «شخصية» الرجل الواحد لا تنحصر فيها جميع المزايا التي تستهوي النساء من الرجال، وقد تبرز مزية واحدة كل البروز فلا يسع المرأة أن تغفل عنها، وتضمر فيها المزايا الأخرى فلا تصبر المرأة عن نشدانها في «شخصية» أخرى.
وقد تشعر المرأة بالحاجة إلى حب رجلين اثنين متناقضين: أحدهما تُكْبِرُهُ وتُكْبِرُ نفسها إذا علمت أنها كبيرة في نظره، والآخر تُصْغِرُهُ ولا تبالي أن تكشف له صغائرها وتطلعه على مذلاتها، وتستريح إلى محادثته لأنه من الجنس الآخر ولا تشعر بمثل هذه الراحة إلى محادثة صديقة من جنسها.
والمزايا التي تستهوي النساء من الرجال لا تحصى في تعدد أنواعها ودرجاتها، فمنها القوة والجمال والشهوة واللباقة والظرف وعلو المكان وبسطة الجاه، ومنها ما يرضي غرورها وما يرضي جسدها وما يرضي ذوقها وما يرضي فؤادها. وكلها تتطلب الإرضاء ولا تتلاقى في «شخصية» واحدة، فلا يندر من أجل هذا أن تتعلق المرأة بأكثر من رجل واحد تعلقًا صحيحًا لا رياء فيه، وتعينها على ذلك سليقة الاستغراق التي تهوِّن عليها الانتقال من حال إلى حال في حضرة كل محبوب،
فلا ينكشف سرها إلا بانتباه شديد؛ لأن المرأة قد تنكشف حين تبغض وتداهن من تبغضه، ولكنها لا تنكشف حين تحب وتظهر المحبة وإن أضمرت غيرها في اللحظة بعينها، وهذه هي العقدة التي يحسبها بعضهم لغزًا كاللغز الذي يصادفه العلماء النفسانيون في أصحاب «الشخصية» المتعددة، وليست هي باللغز على هذا الاعتبار؛ لأن الشخصية المتعددة غير الشخصية الفذة التي تمر بحالة بعد حالة وتستغرق في كل منها فترة تقصر أو تطول.
وفي حب الـمرأة مجال للتناقض — غير ما تقدَّم — يرجع إلى تفاوت درجات الأنوثة الذي سبقت الإشارة إليه.
فمن التعبيرات المجازية التي تقارب الحقيقة العلمية كل المقاربة أن الـمرأة والرجل لا يكمل الوِفاق بينهما إلا إذا كان فيهما معًا ذكر كامل وأنثى كاملة، أو مائة في المائة من الذكورة ومائة في المائة من الأنوثة كما يقال في الاصطلاح الأوروبي الحديث.
ولكن المـرأة التي تكمل فيها مائة في المائة من الأنوثة غير موجودة، والرجل الذي تكمل فيه مائة في المائة من الرجولة غير موجود.
فالمـرأة التي تغلب عليها الأنوثة يصلح لها قرين تغلب عليه الرجولة، فإذا انحرفت المـرأة نحو طباع الرجال فأَصلحُ القرناء لها رجل منحرف نحو طباع النساء.
وقد تسيطر المـرأة على رجل وتَخضع لرجل غيره، تبعًا لاختلاف نصيبهما من الفحولة وصعوبة المراس.
وهذا التفاوت في درجات الأنوثة هو سبب الانحراف في علاقات الجنس بين بعض النساء المعروفات «بالسافيات» نسبة إلى الشاعرة اليونانية سافوا التي تغزلت في بعض أناشيدها بالفتيات.
كأنما تفقد المـرأة سرورها بمصاحبة الرجال فهي تلتمس هذا السرور بمصاحبة بنات جنسها الذي خرجت منه بالمزاج وإن بقيت فيه بتركيب الأعضاء.
ومن المقارنات التي تتكرر في كل جيل تلك المقارنة الخالدة بين الرجال والنساء في الحب أيهما أقوى فيه وأيهما أوفى وأيهما أقرب إلى الروحانية والقداسة.
بعض الأقدمين زعموا أن المـرأة أقوى شهوة من الرجل، وزعموا أنهم قاسُوا هذا الفارق بمقياس الحساب، فوجدوا أن نصيب النساء تسعة وتسعون والواحد الباقي من نصيب الرجال.
وبعض المحدَثين زعموا أن الحب أهم للمرأة من الرجل؛ لأن شواغل الرجل قد تلهيه عن الاستغراق فيه.
ولا بد من فارق في الحب بين الجنسين على كل حال.
لأن هدف المـرأة من الحب هو الرجل وهدف الرجل من الحب هو المـرأة، وهما مختلفان في الصفة والغاية والوسيلة.
لا بد من فارق بين الحب المعبِّر والحب الكتوم، فالحب المعبِّر — وهو حب الرجل — يتسامى بتعبيره أحيانًا إلى خلق الجمال في الفنون كما يصنع المُغرَم الذي ينشد القصيد أو يبدع التماثيل أو ينطلق بالغناء.
والحب الكتوم — وهو حب المـرأة — قد يتوارى عن الأنظار ويتغلغل في الأسرار ويعمد إلى الرقى والتعاويذ وإلى السحر الأسود يستميل به من لا يميل ومن لا يرفع المرأة في نظره أنه يستمال عنوة وجهرة، كما يفعل الرجل حين يستميل من يهواها من النساء.
فالفن الجميل شفيع حب الرجل، والسحر الأسود شفيع المـرأة؛ لأن هذا مجذوب إلى الخفاء وذاك مجذوب إلى الضياء، وإن وُجِدَ كلاهما أصلًا لغرض غير هذين الغرضين.
وإن الفجوة بعيدة بين الوجهتين.
وشتان بين الحب الناطق الذي يكرمه أن يطلب ويعبر، وبين الحب الصامت الذي يكرمه أن يصمت وينتظر؛ فهما ولا ريب جنسان متباينان كما يتباين الجنسان المحبان.
كذلك لا يتشابه الحبان، هذا خلق في طبيعة تنقاد للمؤثرات ولا تبالي ما وراءها ولا تزال في حاجة إليها وهي معشوقة وزوج وأمٌّ ذاتُ بنين، وهذا خلق في طبيعة تملي تلك المؤثرات وتتسلط بها على الطبيعة المقابلة لها، وهي مدعوة إلى التسلط عليها.
فأحد الحبين ينبع من الإحساس، والآخر ينبع من العزيمة النافذة والعارضة القوية، وإن جاز أن يصطبغ كلاهما بغير صبغته كلما جاوز المنبع وجرى مطَّردًا أو غير مطرد في مجراه.
ولا يتشابه كذلك حب يقترن بحب المجد والكفاح ونتاج الفكر والإلهام، وحب تفرغ له النفس أو تكاد، ولا تطلب المفاخر معه إلا من طريقه أو من جوار ذلك الطريق.
والحب يعد من جانب المـرأة طلب حماية وتسليم، ومن جانب الرجل طلب هجوم وظَفَر، فلولا أنهما يدوران على محور واحد لقيل إنهما متناقضان.
والحب كما قيل عند المـرأة شغل شاغل وصناعة دائمة، وعند الرجل رياضة فراغ وسكن من جهاد.
فهو يستولي على المـرأة كلها ولا يستولي من الرجل إلا على الجانب الذي يتوق إلى الرياضة وابتغاء الراحة، ومن الرياضة رياضة القريحة ورياضة الروح.
فأيهما إذن أحرى أن يدوم؟
ظاهر الأمر أن الحب الذي يستولي على النفس كلها هو أحرى بالدوام، وحقيقة الأمر أن الحب الذي يبلغ هذا المبلغ هو أقرب الحُبَّين إلى الخطر وأدناه إلى التبدُّل؛ لأن النفس الإنسانية لا تدوم طويلًا على حالة الاستغراق أو الشبع والامتلاء، وقد يُضمن الدوام للحب الذي يستريح من جانب إلى جانب ولا يكلف الطبع جهدًا عظيمًا في موالاته بالمدد والتجديد، ولكنه لا ضمان للحب الذي يحتاج أبدًا إلى مدد يكفل له كل استغراق وامتلاء، ولا يصبر على فراغ بعضه إلا نزع إلى حالة أخرى من حالات الاستغراق والامتلاء.
•••
وتعريف الحب — ولو فيما نراه نحن — قد يُعين على فصل هذين الحبين ولمس مواقع الالتباس بينهما، إذا وقع هذا الالتباس.
فالحب — ولو فيما نراه نحن — هو اتصال شخصيتين — لا مجرد ذكر وأنثى — تتغلب فيه العادة على الإرادة، وقد يتفق لأكثر من شخصيتين اثنتين مع اختلاف الباعث والغرض والقوة.
وهنا تلعب العوارض النفسية لعبها الذي يخلط بين الشكول حتى ليوشك أن يخلط بين الأصول.
فالرجل أقوى إرادة من المرأة ولكنه لا يشعر بالعيب وهو يريد المـرأة ويلاحقها ويحرص على احتجانها واستبقائها، ما لم يكن في ذلك مساس بالنخوة والمروءة، فيريد أحيانًا وهو يبدو للوهلة الأولى كأنه مقسور.
والمرأة أضعف إرادةً من الرجل، ولكنها تشعر بالعيب من ملاحقته واحتجانه، فتصد عنه وتعتصم في صَدِّها بحظ المـرأة من الإرادة، وهو العناد أو الإرادة السلبية: إرادة الامتناع.
وهذا الذي يبدو منه لأول وهلة أن الـمرأة في الحب أقوى إرادة من الرجل.
وقد قالت إحدى ذكيات المعلمات في معرض الموازنة بين ذكاء الجنسين أن النساء أذكى من الرجال؛ لأنهم يريدون معًا سرورًا واحدًا والرجل هو الذي يؤدي ثمنه ويسعى إليه.
وذلك هو التباس الشُّكول الذي لا يسري إلى الأصول.
فإن المسألة هنا ليست مسألة الإرادة وإنما هي مسألة الشعور بالعيب بين الجنسين، ولا يعيب الذكور ما يعيب الإناث.
نعم، ولا يعيب الكفيل أن يسعى في رعاية المكفول، بل يبلغ من ذلك أن الطفل الصغير يقسرنا على رشوته ومصانعته ليقبل على تجرع الدواء، وهو أحوج إلى معاطاته وفي خطر من الإعراض عنه.
•••
وكل ما تَقَدَّمَ فهو حديث عن الرجل الذي أَحَبَّ والمـرأة التي أحبت، وليس بحديث عن كل رجل وكل امرأة من الجنسين.
فليس لأحد أن ينظر إلى الرجال عامة والنساء عامة ثم يسأل أين هي نوازع الرجال الذين تعنونهم؟ وأين هي نوازع النساء اللاتي تعنونهن؟ فإن من يسأل هذا السؤال كمن يلتمس الماء في غير مورد، وأخلق بالباحث عن عوارض النفوس أن يبحث عنها في أطوار التعرُّض لها والإصابة بها كما يبحث عن عوارض الأبدان.
فهي تعرف حيث توجد، ولا تعرف حيث تنعدم أو تكمن في الانتظار، وكم من الرجال والنساء يقضون العمر ولا يعيشون، ويلبسون الحياة في ذيل ثوب الحياة!